فصل: ثم دخلت سنة إحدى وعشرين ومائتين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم **


 ثم دخلت سنة إحدى وعشرين ومائتين

فمن الحوادث فيها‏:‏ الوقعة بين بابك وبغا الكبير فهزم بغا واستبيح عسكره ثم واقع الأفشين بابك فهزمه الأفشين وشرح الحال‏:‏ أن بغا لما تقدم بالمال الذي تقدم ذكره من عند المعتصم تجهز بغا وحمل معه الزاد من غير أن يكون الأفشين أمره بذلك فدخل قرية بابك فخرج عسكر بابك فقتل من عسكره وأسر واستباح وجاء الخبر إلى الأفشين فكتب إلى بغا إني في اليوم الفلاني أغزو بابك فاغزه أنت يومئذ لنجتمع عليه فهاجت ريح فرجع بغا إلى عسكره ولقيه الأفشين فهزمه وأخذ عسكره وخيمه ونزل في معسكره ثم بيت بابك الأفشين ونقص عسكره ثم عاد إلى بغا فبيته فخرج بغا راجلًا حتى نجا وفرق الأفشين الناس في مشاتيهم تلك السنة حتى جاء الربيع من السنة المقبلة ‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ قتل قائد لبابك يقال له طرخان استأذنه أن يشتو في قرية له فبعث إليه الأفشين من قتله وجاء برأسه ‏.‏

وفيها‏:‏ أتى أهل البصرة سيل من قبل البر فغرق دورًا كثيرة وزاد الماء حتى خيف الغرق ‏.‏

وفيها‏:‏ انتقل المعتصم إلى سامراء بعسكره لأن بغداد ضاقت بهم ونادى الناس بالعسكر فسميت سامراء العسكر ‏.‏

فمن نسب من المحدثين فقيل العسكري فإنهم يختلفون فمنهم من ينسب إلى عسكر سامراء وفيهم كثرة ومنهم من ينسب إلى عسكر المهدي منهم‏:‏ محمد بن عبد الله أبو بكر أحد فقهاء أصحاب الرأي كان يتولى القضاء بعسكر المهدي وكان عاقلًا إلا أنه اشتهر بالاعتزال ‏.‏

ومنهم من ينسب إلى عسكر مصر منهم‏:‏ محمد بن علي العسكري مفتي مصر كان ثقة على مذهب الشافعي وحدث بكتبه عن الربيع بن سليمان ‏.‏

وكذلك سليمان بن داود بن سليمان أبو القاسم البزاز حدث عن الربيع أيضًا ‏.‏

وقيل له‏:‏ العسكري ‏.‏

ومنهم من ينسب إلى عسكر مكرم من بلاد خوزستان وفيهم كثرة ومكرم باهلي وهو أول من اختطها من العرب فتنسب البلدة إليه ‏.‏

وحج بالناس في هذه السنة محمد بن داود بن عيسى وهو والي مكة ‏.‏

 ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

حدث عن إسماعيل بن عياش ومسلم بن خالد الزنجي وفضيل بن عياض وابن المبارك وغيرهم روى عنه‏:‏ أحمد بن حنبل وأبو خيثمة وعباس الدوري وكان ثقة ثبتًا صاحب سنة وكان ضخمًا عظيم الهامة فارسًا شجاعًا بطلًا مبارزًا عالمًا فاضلًا قتلته الترك وهو جاء من ضيعته لم يشعر بهم ولم يعرفوه وذلك خارج سمرقند في محرم هذه السنة وقيل‏:‏ سنة عشرين ‏.‏

إبراهيم بن سيار أبو إسحاق البصري النظام كان من كبار المتكلمين على مذهب المعتزلة وله في ذلك تصانيف والجاحظ يحكي عنه كثيرًا ‏.‏

أخبرنا أبو منصور القزاز قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب قال‏:‏ أخبرني الحسن بن علي الصيمري قال‏:‏ حدثنا محمد بن عمران المرزباني قال‏:‏ أخبرني محمد بن يحيى قال‏:‏ حدثنا محمد بن يزيد المبرد قال‏:‏ حدثني الجاحظ قال‏:‏ سمعت النظام يقول‏:‏ العلم شيء لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك فإذا أعطيته كلك فأنت من إعطائه لك البعض على خطر ‏.‏

قال المرزباني‏:‏ وكان لإبراهيم مذهب في ترقيق الشعر وتدقيق المعاني لم يسبق إليه ذهب فيه مذهب أهل الكلام المدققين ومنه ما أنشدنيه عبد الله بن يحيى العسكري‏:‏ رق فلو بزت سرابيله علقه الجو من اللطف يجرحه اللحظ بتكراره ويشتكي الإيماء بالطرف أفديه من مغرى بما ساءني كأنه يعلم ما أخفي عبد العزيز بن يحيى بن عبد العزيز بن مسلم بن ميمون الكناني المكي سمع سفيان بن عيينة والشافعي وصحبه طويلًا وتفقه له وخرج معه إلى اليمن وقدم بغداد في أيام المأمون وجرى بينه وبين بشر المريسي مناظرات في القرآن وهو صاحب كتاب الحيدة وكان من أهل الفضل والعلم وله مصنفات عدة ‏.‏

عيسى بن أبان بن صدقة بن موسى ‏.‏

سمع إبراهيم من هشيم وغيره وصحب محمد بن الحسن وتفقه له واستخلفه يحيى بن أكثم على القضاء بعسكر المهدي حين خرج يحيى مع المأمون إلى فم الصلح ثم تولى عيسى القضاء بالبصرة فلم يزل عليه حتى مات وكان سخيًا جدًا وكان يقول‏:‏ والله لو أتيت برجل يفعل في ماله كفعلي لحجرت عليه ويذكر عنه أنه كان يذهب إلى القول بخلق القرآن ‏.‏

أخبرنا أبو منصور القزاز قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال‏:‏ أخبرنا القاضي أبو محمد الحسن بن الحسين بن رامين حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن جعفر حدثنا محمد بن يحيى بن جعفر البزاز حدثنا محمد بن الرومي حدثنا محمد بن داود بن دينار الفارسي حدثنا محمد بن الخليل حدثنا أبي - وكان صاحب سفيان الثوري - قال‏:‏ كنت بالبصرة فاختصم رجل مسلم ورجل يهودي عند القاضي وكان قاضيهم يومئذ عيسى بن أبان وكان يرى رأي القوم فوقعت اليمين على المسلم فقال له القاضي‏:‏ قل والذي لا إله إلا هو فقال له اليهودي‏:‏ حلفه بالخالق لا بالمخلوق لأن لا إله إلا هو في القرآن وأنتم تزعمون أنه مخلوق قال‏:‏ فتحير عيسى عند ذلك ‏.‏

وقال‏:‏ قوما حتى أنظر في أمركما ‏.‏

توفي عيسى في محرم هذه السنة بالبصرة ‏.‏

عاصم بن علي بن عاصم بن صهيب مولى قريبة بنت محمد بن أبي بكر الصديق يكنى أبا الحسين الواسطي حدث عن ابن أبي ذئب وشعبة والمسعودي روى عنه‏:‏ أحمد بن حنبل والبخاري في صحيحه والحسن بن محمد الزعفراني وقال يحيى بن معين‏:‏ هو سيد المسلمين وعنه تضعيفه ‏.‏

أخبرنا عبد الرحمن القزاز أخبرنا أحمد بن علي الخطيب أخبرنا أبو محمد الخلال قال‏:‏ ذكر أبو القاسم منصور بن جعفر بن ملاعب‏:‏ أن إسماعيل بن علي العاصمي حدثهم قال‏:‏ حدثنا عمر بن حفص قال‏:‏ وجه المعتصم بمن يحرز مجلس عاصم بن علي في رحبة النخل التي في جامع الرصافة وكان عاصم يجلس على سطح المسقطات وينتشر الناس في الرحبة وما يليها فيعظم الجمع جدًا حتى سمعته يومًا يقول‏:‏ حدثنا الليث بن سعد ويستعاد فأعاد أربع عشرة مرة والناس لا يسمعون قال‏:‏ وكان هارون المستملي يركب نخلة معوجة ويستملي عليها فبلغ المعتصم كثرة الجمع فأمره بحرزهم فوجه بقطاعي الغنم فحرزوا المجلس مائة ألف وعشرون ألفًا ‏.‏

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد أخبرنا أحمد بن علي أخبرنا الأزهري أخبرنا علي بن محمد بن لؤلؤ أخبرنا الهيثم الدوري حدثنا محمد بن سويد الطحان قال‏:‏ كنا عند عاصم بن علي ومعنا أبو عبيد القاسم بن سلام وإبراهيم بن أبي الليث وذكر جماعة وأحمد بن حنبل يضرب ذلك اليوم فجعل عاصم يقول‏:‏ ألا رجل يقوم معي فنأتي هذا الرجل فنكلمه فما يجيبه أحد قال‏:‏ فقال إبراهيم بن أبي الليث‏:‏ يا أبا الحسين أنا أقوم معك ‏.‏

فصاح‏:‏ يا غلام خفي ‏.‏

فقال له إبراهيم‏:‏ يا أبا الحسين أبلغ بناتي فأوصيهن وأجدد بهن عهدًا ‏.‏

قال‏:‏ فظننا أنه ذهب يتكفن ويتحنط ثم جاء فقال عاصم‏:‏ يا غلام خفي فقال‏:‏ يا أبا الحسين إني ذهبت إلى بناتي فبكين قال‏:‏ وجاء كتاب ابنتي عاصم من واسط يا أبانا إنه بلغنا أن هذا الرجل أخذ أحمد بن حنبل وضربه بالسوط على أن يقول القرآن مخلوق فاتق الله ولا تجبه إن سألك فوالله لئن يأتينا نعيك أحب إلينا من أن يأتينا أنك قلت القرآن مخلوق ‏.‏

توفي عاصم في رجب هذه السنة ‏.‏

محمود الوراق الشاعر ابن الحسن الوراق ‏.‏

أكثر القول في الزهد والأدب روى عنه ابن أبي الدنيا وابن مسروق وكان نخاسًا يبيع الرقيق‏.‏

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال‏:‏ أخبرنا علي بن محمد بن عبد الله المعدل أخبرنا أحمد بن محمد بن جعفر الجوزي قال‏:‏ قال أبو بكر بن أبي الدنيا‏:‏ أنشدني محمود الوراق قوله‏:‏ رجعت إلى السفيه بفضل حلمي فكان الحلم عنه لي لجاما وظن بي السفاه فلم يجدني أسافهه وقلت له سلاما فقام يجر رجليه ذليلًا وقد كسب المذلة والملاما وفضل الحلم أبلغ في سفيه وأحرى أن تنال به انتقاما أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي أخبرنا الجوهري أخبرنا محمد بن العباس حدثنا أبو الحسن علي بن موسى الرزاز حدثنا قاسم الأنباري قال‏:‏ حدثني أبو بكر الطالقاني عن أبيه ‏.‏

قال‏:‏ كنت جالسًا عند محمود الوراق والناس يعزونه عن جاريته نشو وقد كان أعطى بها ألفًا من الدنانير وإذا بعض المعزين يكرر ذكر فضلها عنده ليحزنه ففطن له فأنشأ يقول‏:‏ ومنتصح يكرر ذكر نشو ليحدث لي بذكراها اكتئابا أقول وعد ما كانت تساوي سيخلفها الذي خلق الحسابا عطيته إذا أعطى سرورًا وإن أخذ الذي أعطى أثابا فأي النعمتين أعم فضلًا وأكرم في عواقبها إيابا أنعمته التي أهدت سروراُ أم الأخرى التي أهدت ثوابا بل الأخرى التي نزلت بكره أحق بصبر من صبر احتسابا أخبرنا محمد بن ناصر قال‏:‏ أخبرنا محمد بن علي بن ميمون أخبرنا محمد بن علي بن عبد الرحمن حدثنا جعفر بن محمد بن حاجب حدثنا الحسين بن محمد القزازي قال‏:‏ أنشدني الحسن بن علي بن يزيع قال‏:‏ أنشدني محمود الوراق قال‏:‏

العمر ينقص والذنوب تزيد ** ويقال عثرته الفتى ويعود

أنى يطيق جحود ذنب موبق ** رجل جوارحه عليه شهود

هيهات لا غلط وليس بدافع ** للموت تقريب ولا تبعيد

أخبرنا محمد بن ناصر قال‏:‏ أخبرنا طراد بن محمد قال‏:‏ أخبرنا أبو الحسين بن بشوان قال‏:‏ حدثنا أبو علي البرذعي قال‏:‏ حدثنا عبد الله بن محمد القرشي قال‏:‏ سمعت محمود الوراق ينشد‏:‏ يمثل ذو اللب في نفسه مصيبته قبل أن تنزلا فإن نزلت بغتة لم ترعه لما كان في نفسه مثلا رأى الأمر يفضي إلى آخر فصير آخره أولا وذو الجهل يأمن أيامه وينسى مصارع من قد خلا فإن بدهته صروف الزمان ببعض مصائبه أعولا ولو قدم الجرم في نفسه لعلمه الصبر حسن البلا أخبرنا ابن ناصر عن أبي القاسم بن البسري عن أبي عبد الله بن بطة قال‏:‏ حدثنا أبو بكر بن الأنباري قال‏:‏ حدثني أبي ‏.‏

قال‏:‏ حدثنا ابن الأعرابي عن محمود الوراق‏:‏ بقيت مالك ميراثًا لوارثه فليت شعري ما بقى لك المال القوم بعدك في حال تسرهم فكيف بعدهم دارت بك الحال أبو جعفر المخولي سكن باب مخول من بغداد فنسب إليه ‏.‏

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب قال‏:‏ أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد بن مخلد قال الخلدي‏:‏ حدثنا أحمد بن محمد بن مسروق قال‏:‏ حدثنا محمد بن الحسين وحدثني إسماعيل بن إبراهيم الترجماني قال‏:‏ سمعت أبا جعفر المخولي وكان عابدًا عالمًا يقول‏:‏ حرام على قلب صحب الدنيا أن يسكنه الورع الخفي وحرام على نفس عليها زبانية الناس أن تذوق حلاوة الآخرة وحرام على كل عالم لم يعمل بعلمه أن يتخذه المتقون إمامًا ‏.‏

 ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين ومائتين

فمن الحوادث فيها‏:‏ أن المعتصم وجه إلى الأفشين جعفر بن دينار مددًا له ثم أتبعه بإيتاخ ووجه معه ثلاثين ألف ألف درهم عطاء للجند والنفقات وذلك بعد انقضاء الشتاء فوقعت وقعة بين أصحاب وانقض ليلة السبت لست خلون من ربيع الآخر نجم لم ير أعظم منه حتى نودي بالنفير في الرقة وكور الجزيرة والسابات ‏.‏

وظهر في هذه السنة من الفأر ما لم يحط به الإحصاء وأتى على غلات الناس ثم تفانى بوقوع الموت فيه ‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ فتحت البذ وهي مدينة بابك ودخلها المسلمون فاستباحوها وذلك في يوم الجمعة لعشر مضين من رمضان ‏.‏

وشرح الحال‏:‏ أن الأفشين لما عزم على الدنو من البذ جعل يزحف قليلًا حتى ضج الناس فقالوا‏:‏ كم نقعد ها هنا في المضيق أقدم بنا فإما لنا وإما علينا وهو مصابر فأتاه رسول بابك ومعه قثاء وبطيخ وخيار اعلم أنني قد علمت أنك في جفاء بأكلك الكعك والسويق ثم جاءت الخرمية في ثلاثة كراديس وقد كمن لهم الأفشين في الأودية فشد عليهم الخيل والرجالة فتسلقوا في الجبال وبقي الأفشين مدة يتقدم كل يوم فيقف بإزاء بابك ثم يرجع من غير قتال إلى أن عبأ لهم كمينًا فجاءهم من فوقهم وجاء بمن معه فأخذ قوتهم فأقبل بابك فقال‏:‏ أريد الأمان من أمير المؤمنين على أن أحمل عيالي وأذهب فاشتغل عنه بالحرب ‏.‏

ودخل المسلمون البلدة وأحرقوا وقتلوا وهزموا فأفلت بابك في جماعة فاستتر في غيضة وجاء كتاب المعتصم بالأمان لبابك فقال الأفشين لولد بابك وأصحابه‏:‏ هذا ما لم أكن أرجوه من أمير المؤمنين لبابك فمن يذهب به إليه فأخذه رجلان وكتب معهما ولد بابك يقول له‏:‏ صر إلى الأمان فهو خير لك فلما حملاه إليه قتل أحدهما وقال للآخر‏:‏ اذهب إلى ابن الفاعلة يعني ابنه وقل له لو كنت ابني لكنت قد لحقت بي ثم خرج من ذلك المكان وقد كمن له العسكر فطلبوه فأفلت إلى جبال أرمينية فلقيه رجل نصراني يقال له سهل الأرمني أحد بطارقة أرمينية فقال له‏:‏ انزل عندي ‏.‏

فنزل وكتب ذلك الرجل إلى الأفشين ثم قال الرجل لبابك‏:‏ أنت ها هنا مكانك مغموم في جوف حصن وها هنا واد طيب فلو أخذنا معنا بازيًا وخرجنا نتفرج على الصيد ‏.‏

فقال له بابك‏:‏ إذا شئت فانفذ الغداة وكتب الرجل يعلم أصحاب الأفشين بذلك ويأمرهم بالبكور فبكروا فوجدوه فأخذوه فحملوه إلى الأفشين لعشر خلون من شوال ‏.‏

وكان المعتصم قد جعل لمن جاء به حيًا ألفي ألف ولمن جاء برأسه ألف ألف فكتب الأفشين إلى المعتصم يخبره أنه قد أسر بابك وأخاه فكتب المعتصم يأمره بالقدوم بهما عليه فقال الأفشين لبابك‏:‏ إني أريد أن أسافر بك فما الذي تشتهي من بلاد أذربيجان فقال‏:‏ أشتهي أن أنظر إلى مدينتي البذ فوجه معه قوما إلى البذ فدار فيه ونظر إلى القتلى والبيوت ثم رد ‏.‏

قال الصولي‏:‏ ووصل المعتصم سهلًا النصراني بألفي ألف درهم ووهب له جوهرًا كثيرًا وترك وحج بالناس في هذه السنة محمد بن داود ‏.‏

 ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

حسان بن عبد الله بن سهل أبو علي الكندي يروي عن الليث بن سعد وغيره وكان صدوقًا حسن الحديث توفي بمصر في هذه السنة ‏.‏

عبد الله بن صالح بن محمد بن مسلم أبو صالح مولى جهينة من أهل مصر وهو كاتب الليث بن سعد ولد سنة تسع وثلاثين ومائة وسمع من جماعة وروى عنه أئمة مثل أبي عبيدة والبخاري ومحمد بن يحيى الذهلي وغيرهم وقد حدث عنه الليث بن سعد ‏.‏

قال أحمد بن حنبل‏:‏ كان عبد الله بن صالح متماسكًا في أول أمره ثم فسد بآخره وليس هو بشيء وروي عن يحيى أنه كان يوثقه ‏.‏

وتوفي في هذه السنة ‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائتين

فمن الحوادث فيها‏:‏ قدوم الأفشين على المعتصم ببابك وأخيه وذلك في ليلة الخميس لثلاث خلون من صفر في سامراء ‏.‏

وكان المعتصم يوجه كل يوم إلى الأفشين من حين فصل من برزند إلى أن وافى سامراء فرسًا وخلعة وأن المعتصم لعنايته بأمر بابك وأخباره ولفساد الطريق بالثلج وغيره جعل من سامراء إلى عقبة حلوان خيلًا مضمرة على رأس كل فرسخ فرسًا معه مجر مرتب فكان يركض بالخبر ركضًا حتى يؤديه واحد إلى واحد وكانت خريطة الكتب تصل من عسكر الأفشين إلى سامراء في أربعة أيام وأقل فلما صار الأفشين بقناطر حذيفة تلقاه هارون بن المعتصم وأهل بيته فلما دخل أنزل بابك في قصر فجاء أحمد بن أبي دواد متنكرًا في الليل فأبصره وكلمه ورجع إلى المعتصم فوصفه له فركب ودخل إليه متنكرًا فتأمله وبابك لا يعرفه فلما كان من الغد قعد له واصطف الناس وأراد المعتصم أن يشهره ويريه الناس فقال‏:‏ على أي شيء يحمل هذا وكيف يشهر فقال حزام‏:‏ يا أمير المؤمنين لا شيء أشهر من الفيل ‏.‏

فقال‏:‏ صدقت فأمر بتهيئة الفيل فأدخل على أمير المؤمنين وأحضر جزار ليقطع يديه ورجليه ثم أمر أن يحضر سياف بابك فأمره أمير المؤمنين أن يقطع يديه ورجليه فقطعهما فسقط فأمر أمير المؤمنين بذبحه ووجه برأسه إلى خراسان وصلب بدنه بسامراء عند العقبة فموضع خشبته مشهور وأمر بحمل أخيه عبد الله إلى إسحاق بن إبراهيم خليفته بمدينة السلام وأمره بضرب عنقه وأن يفعل به مثل ما فعل بأخيه وصلبه فقال للذي معه‏:‏ اضرب لي فالوذجة فعملت له فأكل وامتلأ ثم قال‏:‏ اسقيني نبيذًا فأعطاه فشرب أربعة أرطال ثم قدم به على إسحاق فأمر بقطع يديه ورجليه فلم ينطق ولم يتكلم وصلب في الجانب الشرقي بين الجسرين بمدينة السلام وتوج المعتصم الأفشين بتاج من الذهب وألبسه وشاحين من الجوهر ووصله بعشرين ألف ألف درهم منها عشرة آلاف ألف صلة ‏.‏

وعشرة آلاف ألف يفرقها في عسكره وعقد له على السند وأدخل عليه الشعراء يمدحونه فأمر لهم بصلات وذلك في يوم الخميس لثلاث عشرة خلت من ربيع الآخر ‏.‏

أخبرنا محمد بن طاهر قال‏:‏ أنبأنا علي بن المحسن عن أبيه‏:‏ أن أخا بابك الخرمي قال له لما أدخلا على المعتصم‏:‏ يا بابك إنك قد عملت عملًا لم يعمله أحد فاصبر الآن صبرًا لم يصبره أحد فقال له‏:‏ سترى صبري ‏.‏

فلما صار بحضرة المعتصم أمر بقطع أيديهما بحضرته فبدئ ببابك فقطعت يمناه فلما جرى دمها مسه به وجهه كله فقال المعتصم‏:‏ سلوه لم فعل هذا فسئل فقال‏:‏ قولوا للخليفة‏:‏ إنك أمرت بقطع أربعتي وفي نفسك - ولا شك - إنك لا تكويها وتمنع دمي حتى ينزف إلى أن تضرب رقبتي فخفت أن يخرج الدم مني فيبقى في وجهي صفرة يقدر لأجلها من حضر إني قد فزعت من الموت وأنها لذلك لا من خروج الدم فغطيت وجهي لذلك حتى لا تبين الصفرة فقال المعتصم‏:‏ لولا أن فعاله لا توجب العفو عنه لكان حقيقيًا بالاستبقاء لهذا الفضل وأمر بإمضاء أمره فيه فقطعت أربعته ثم ضربت عنقه وجعل على بطنه حطب وصب عليه النفط وضرب بالنار وفعل مثل ذلك بأخيه فما فيهما من صاح ولا تكلم ‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ أوقع توفيل بن ميخائيل صاحب الروم بأهل زبطرة فأسرهم وخرب بلدهم ومضى من فوره إلى ملطية فأغار على أهلها وعلى حصون من حصون المسلمين وسبى من المسلمات أكثر من ألف امرأة ومثل بمن صار في يده من المسلمين وسمل أعينهم وقطع آذانهم وآنافهم ‏.‏

وكان السبب في ذلك تضييق الأفشين على بابك فلما أشرف على الهلاك وأيقن بالعجز عن الحرب كتب إلى توفيل ملك الروم يعلمه أن ملك الرعب قد وجه عساكره إليه حتى وجه خياطه - يعني جعفر بن دينار - وطباخه - يعني - إيتاخ - ولم يبق على بابه أحد فإن أردت الخروج إليه فاعلم أنه ليس في وجهك أحد يمنعك وإنما كتب هذا ليتجرد ملك الروم لذلك فينكشف عنه بعض ما هو فيه برجوع العسكر أو بعضهم فخرج توفيل في مائة ألف ومعه من المحمرة الذين كانوا بالجبال فلحقوا بالروم ففرض لهم ملك الروم وزودهم وصيرهم مقاتلة يستعين بهم فدخل ملك الروم زبطرة وقتل الرجال وسبى الذراري والنساء فبلغ النفير إلى سامراء وخرج أهل ثغور الشام والجزيرة واستعظم المعتصم ذلك فصاح في قصره النفير ثم ركب دابته وعسكر بغربي دجلة يوم الإثنين لليلتين خلتا من جمادى الأولى ووجه عجيف بن عنبسة في جماعة من القواد إلى زبطرة إعانة لأهلها فوجدوا ملك الروم قد انصرف إلى بلاده بعدما فعل ما فعل فوقفوا قليلًا حتى تراجع الناس إلى قراهم واطمأنوا ‏.‏

وقال المعتصم‏:‏ شفيت ببابك غل النفوس وأثلجت بالزط حر الصدور وأحضر القضاة والشهود وأشهدهم على نفسه أنه قد وقف جميع أمواله فجعل ثلثها لمواليه وثلثها لولده وثلثها للمساكين ثم قال‏:‏ أي بلاد الروم أمنع وأحصن فقيل‏:‏ عمورية لم يعرض لها أحد من المسلمين منذ كان الإسلام وهي عين النصرانية وهي أشرف عندهم من القسطنطينية ‏.‏

فخرج إلى بلاد الروم وقيل‏:‏ كان ذلك في سنة اثنتين وعشرين ‏.‏

وقيل‏:‏ سنة أربع وعشرين وتجهز جهازًا لم يتجهز مثله خليفة قبله من السلاح والعدد والآلة وحياض الأدم والحمير والبغال والروايا والقرب وآلة الحديد والنفط وجعل على مقدمته أشناس ويتلوه محمد بن إبراهيم وعلى ميمنته إيتاخ وعلى ميسرته جعفر بن دينار وعلى القلب عجيف فدخل بلاد الروم فأقام على سلوقية قريبًا من البحر وبعث الأفشين إلى سروج فأمره بالدخول من درب الحدث سمى له يومًا أمره أن يكون دخوله فيه وقدر لعسكره وعسكر أشناس اليوم الذي يدخل فيه الأفشين ودبر النزول على أنقرة فإذا فتحها الله تعالى صار إلى عمورية إذ لم يكن شيء مما يقصد له من بلاد الروم أعظم من هاتين المدينتين ولا أحرى أن تجعل غايته التي يؤمها ‏.‏

وأمر المعتصم أشناس أن يدخل من درب طرسوس وأمره بانتظاره بالصفاف فكان شخوص أشناس يوم الأربعاء لثمان بقيت من رجب وقدم المعتصم وصيفًا في أثر أشناس على مقدمات المعتصم ورحل المعتصم يوم الجمعة لست بقين من رجب ‏.‏

فتقدم أشناس والمعتصم من ورائه بينهم مرحلة ينزل هذا ويرحل هذا ولم يرد عليهم من الأفشين خبر حتى صاروا من أنقرة على مسيرة ثلاث مراحل وضاق عسكر المعتصم ضيقًا شديدًا من الماء والعلف وكان أشناس قد أسر عدة أسرى في طريقه فأمر بهم فضربت ثم صير العسكر ثلاثة عساكر‏:‏ عسكر فيه أشناس في المسيرة والأفشين في الميمنة والمعتصم في القلب وبين كل عسكر وعسكر فرسخان وأمر كل عسكر منهم أن يكون له ميمنة وميسرة وأن يحرقوا القرى ويخربوها ويأخذوا من لحقوا فيها من السبي وإذا كان وقت النزول توافى كل أهل عسكر إلى صاحبهم ورئيسهم يفعلون ذلك فيما بين أنقرة إلى عمورية وبينهم سبع مراحل حتى توافت العساكر بعمورية ‏.‏

وكان أول من وردها أشناس وردها يوم الخميس ضحوة فدار حولها دورة ثم نزل بموضع فيه ماء وحشيش فلما طلعت الشمس ركب المعتصم فدار حولها دورة ثم جاء الأفشين في اليوم الثالث فقسمها أمير المؤمنين بين القواد فصير لكل واحد منهم أبراجًا منها على قدر كثرة أصحابه وقلتهم فصار لكل قائد ما بين البرجين إلى عشرين برجًا وتحصن أهل عمورية وكان أهل عمورية قد أسروا رجلًا فتنصر وتزوج فيهم وحبس نفسه فلما رأى أمير المؤمنين ظهر وجاء إلى المعتصم وأعلمه أن موضعًا من المدينة حمل الوادي عليه من مطر شديد جاءهم فوقع السور من ذلك الموضع وكتب ملك الروم إلى عامل عمورية أن يبني ذلك الموضع فوقع التواني حتى خرج الملك من القسطنطينية إلى بعض المواضع فتخوف الوالي أن يمر الملك على تلك الناحية فلا يراها بنيت فبنى وجه السور بالحجارة حجرًا حجرًا وصيروا له من جانب المدينة حشوًا ثم عقد فوقه الشرف كما كان فوقف ذلك الرجل المعتصم على هذه الناحية التي وصف فأمر المعتصم فضرب مضربه في ذلك الموضع ونصب المجانيق على ذلك البناء فانفرج السور من ذلك الموضع وسقط ‏.‏

وكان المعتصم قد ساق غنمًا كثيرة فدبر أن يدفع إلى كل رجل من العسكر شاة فإذا أكلها حشى جلدها ترابًا ثم جاء به فطرحه في الخندق وعمل دبابات تسع كل واحدة عشرة من الرجال فطرحت الجلود وطرح فوقها التراب وكان أول من بدأ بالحرب أشناس وكانت الحرب في اليوم الثاني على الأفشين وأصحابه فأجادوا الحرب وكان المعتصم واقفًا على دابته بإزاء الثلمة وأشناس وأفشين وخواص القواد معه وكان باقي القواد الذين دون الخاصة وقوفًا رجالة فلما انتصف النهار انصرف المعتصم إلى مضربه فتغدى وانصرف القواد إلى مضاربهم يتغدون فلما كان في اليوم الثالث كانت الحرب على أصحاب أمير المؤمنين خاصة والقيم بذلك إيتاخ فقاتلوا فأحسنوا وكثرت في الروم الجراحات فلما كان الليل مشى القائد الموكل بالثلمة إلى الروم فقال لهم‏:‏ إن الحرب علي وعلى أصحابي ولم يبق معي أحد إلا قد خرج فصيروا أصحابكم على الثلمة يرمون قليلًا وإلا افتضحتم وذهبت المدينة ‏.‏

فأبوا أن يمدوه بأحد فقالوا‏:‏ سلم السور من ناحيتنا ونحن ما نسألك أن تمدنا فشأنك بناحيتك ‏.‏

فعزم هو وأصحابه أن يخرجوا فلما أصبح وكل أصحابه بجنبي الثلمة وخرج فقال‏:‏ إني أريد أمير المؤمنين وأمر أصحابه أن لا يحاربوا حتى يعود إليهم فخرج حتى وقف بين يدي المعتصم والناس يتقدمون إلى الثلمة وقد أمسك الروم عن الحرب حتى وصلوا إلى السور والروم يقولون بأيديهم‏:‏ لا تحيوا وهم يتقدمون فدخل الناس المدينة وأخذت الروم السيوف وأقبل الناس بالأسرى والسبي من كل وجه حتى امتلأ العسكر فقتل ثلاثين ألفًا وسبى مثلهم وكان في سبيه ستون بطريقًا وطرح النار في عمورية من جميع نواحيها فأحرقها وجاء ببابها إلى العراق وهو الباب المنصوب اليوم على دار الخليفة المجاور لباب الجامع ويسمى باب العامة ‏.‏

وروى أبو بكر الصولي قال‏:‏ حدثنا الغلابي قال‏:‏ حدثني يعقوب بن جعفر بن سليمان قال‏:‏ غزوت مع المعتصم عمورية فاحتاج الناس إلى ماء فمد لهم المعتصم حياضًا من أدم عشرة أميال وساق الماء فيها إلى سور عمورية فقام يومًا على السور رجل منهم فصيح بالعربية فشتم النبي صلى الله عليه وسلم باسمه ونسبه فاشتد ذلك على المسلمين ولم تبلغه النشابة قال يعقوب‏:‏ وكنت أرمي فاعتمدته فأصبت نحره فهوى وكبر المسلمون وسر المعتصم وقال‏:‏ جيئوني بمن رمى هذا العلج ‏.‏

فأدخلوني عليه فقال‏:‏ من أنت فانتسبت له فقال‏:‏ الحمد لله الذي جعل ثواب هذا السهم لرجل من أهل بيتي ثم قال‏:‏ بعني هذا الثواب فقلت يا أمير المؤمنين ليس الثواب مما يباع فقال‏:‏ إني أرغبك فأعطاني مائة ألف درهم إلى أن بلغ خمسمائة ألف درهم قلت‏:‏ ما أبيعه بالدينار لكن أشهد الله أني قد جعلت نصف ثوابه لك فقال‏:‏ قد رضيت بهذا أحسن الله جزاءك في أي موضع تعلمت الرمي فقلت‏:‏ بالبصرة في دار لي فقال‏:‏ بعينها فقلت هي وقف على من يتعلم الرمي وإن أحب أمير المؤمنين فهي له وكل ما أملك ‏.‏

فجزاني خيرًا ووصلني بمائة ألف درهم وارتحل المعتصم منصرفًا إلى أرض طرسوس وكانت إناخة المعتصم على عمورية لست خلون من رمضان وقيل‏:‏ بعد خمسة وخمسين يومًا ‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ حبس المعتصم العباس بن المأمون وأمر بلعنه ‏.‏

وكان السبب في ذلك‏:‏ أن العباس دس رجلًا يقال له‏:‏ الحارث السمرقندي وكان يأنس إلى القواد فدار في العسكر حتى تألف له جماعة منهم وبايعه منهم خواص العسكر وسمى لكل رجل من القواد رجلًا من أصحابه ووكله به وقال‏:‏ إذا أمرنا فليثب كل رجل منكم على من ضمناه أن يقتله فضمنوا له ذلك فوكل رجلًا ممن بايعه من خاصة الأفشين بالأفشين ومن خاصة أشناس بأشناس ومن خاصة المعتصم بالمعتصم فضمنوا ذلك جميعًا فلما أرادوا أن يدخلوا الدرب وهم يريدون أنقرة وعمورية أشار عجيف على العباس أن يثب على المعتصم في الدرب وهو في قلة من الناس فيقتله ويرجع إلى بغداد فيفرح الناس بانصرافهم من الغزو فأبى العباس وقال‏:‏ لا أفسد هذه الغزاة ‏.‏

حتى دخلوا بلاد الروم وافتتحوا عمورية فقال عجيف للعباس‏:‏ يا نائم كم تنام والرجل ممكن دس قومًا ينتهبون هذا الحرثي فإنه إذا بلغه ذلك ركب في سرعة فتأمر بقتله هناك فأبى العباس وقال‏:‏ انتظر حتى نصير في الدرب ‏.‏

ونمى حديث الحارث السمرقندي فحمل إلى المعتصم فأقر وأخبر بخبر العباس ومن بايعه فأطلقه المعتصم وخلع عليه ودعا بالعباس فأطلقه ومناه وأوهمه أنه قد صفح عنه فتغدى معه ثم دعاه بالليل فاستحلفه أن لا يكتمه شيئًا من أمره فشرح له قصته وسمى له جمي من دب في أمره ثم دعا الحارث فقص عليه مثل ما قص العباس فصفح عن الحارث ودفع العباس إلى الأفشين وتتبع المعتصم أولئك القواد فأخذوا جميعًا وكان منهم أحمد بن الخليل فأمر به أن يحمل على بغل بإكاف بلا وطاء ويطرح في الشمس إذا نزل ويطعم كل يوم رغيفًا واحدًا وكان منهم عجيف فدفع إلى إيتاخ فعلق عليه حديدًا كثيرًا فلما نزل العباس منبج - وكان العباس جائعًا - سأل الطعام فقدم إليه فأكل فلما طلب الماء منع وأدرج في مسح فمات فيه بمنبج وكذلك عجيف قدم إليه الطعام ومنع الماء فمات وأهلك كل واحد من القوم بسبب ورود المعتصم سامراء سالمًا فسمي العباس يومئذ اللعين ‏.‏

ولما فتح المعتصم عمورية قال محمد بن عبد الملك الزيات‏:‏ فقد أصبح الدين مستوسقًا وأضحت زياد الهدى واريه ومن الحوادث‏:‏ حصول جارية محمود الوراق في يد المعتصم بعد موت سيدها محمود الوراق ‏.‏

أخبرنا أبو منصور القزاز أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال‏:‏ أخبرني الأزهري حدثنا محمد بن جعفر النجار أخبرنا أبو محمد العتكي حدثنا يموت بن المزرع عن الجاحظ قال‏:‏ طلب المعتصم جارية كانت لمحمود الوراق وكان نخاسًا بسبعة آلاف دينار فامتنع محمود من بيعها فلما مات محمود اشتريت للمعتصم من ميراثه بسبعمائة دينار فلما دخلت عليه قال لها‏:‏ كيف رأيت تركتك حتى اشتريتك من سبعة آلاف دينار بسبعمائة قالت‏:‏ أجل إذا كان الخليفة ينتظر بشهواته المواريث فإن سبعين دينارًا كثيرة في ثمني فضلًا عن سبعمائة فأخجلته ‏.‏

وحج بالناس في هذه السنة محمد بن داود ‏.‏

 ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

عجيف بن عنبسة قائد كبير من القواد قد ذكرنا في الحوادث أنه خامر على الخليفة فأخذ ومنع الماء حتى مات وروي أنه قتل وطرح تحت حائط ‏.‏

أنبأنا محمد بن عبد الباقي أنبأنا التنوخي عن أبيه روى عن محمد بن الفضل الجرجاني أنه تحدث في وزارته للمعتصم قال‏:‏ كنت أتولى ضياع عجيف - وهو أحد القواد - فرفع علي أنني جئت وأخربت الضياع فأنفذ إلي فأدخلت عليه وهو يطوف في داره على ضياع فيها فلما رآني شتمني وقال‏:‏ أخربت الضياع ونهبت الارتفاع والله لأقتلنك هاتوا السياف ‏.‏

فأحضرت ونحيت للضرب فلما رأيت ذلك ذهب عقلي وبلت على ساقي فنظر كاتبه إلي فقال‏:‏ أعز الله الأمير أنت مشتغل القلب بهذا البناء وضرب هذا أو قتله في أيدينا ليس يفوت فتأمر بحبسه وانظر في أمره فإن كانت الرقعة صحيحة فليس يفوتك عقابه وإن كانت باطلة لم تستعجل الإثم وتنقطع عما أنت بسبيله من المهم ‏.‏

فأمر بي إلى الحبس فمكثت أيامًا وقتل المعتصم عجيفًا فاتصل الخبر بكاتبه فأطلقني فخرجت وما أهتدي إلى حبة فضة فما فوقها فقصدت صاحب الديوان بسر من رأى فسر بإطلاقي وقلدني عملًا فنزلت دارًا فرأيت مستحمها غير نظيف فإذا تل فجلست أبول عليه وخرج صاحب الدار فقال لي‏:‏ أتدري على أي شيء بلت قلت‏:‏ على تل تراب ‏.‏

فضحك وقال‏:‏ هذا رجل من قواد السلطان يعرف بعجيف سخط عليه وحمله مقيدًا فلما صار ها هنا قتل وطرح في هذا المكان تحت حائط فلما انصرف العسكر طرحنا الحائط ليواريه من الكلاب فهو والله تحت هذا التل التراب ‏.‏

قال‏:‏ فعجبت من بولي خوفًا منه أحمد بن الحكم أبو علي العبدي البغدادي روى عن مالك بن أنس وإبراهيم بن سعد وشريك بن عبد الله قال الدارقطني‏:‏ هو متروك الحديث قال أبو سعيد بن يونس‏:‏ قدم مصر وتوفي بها في ذي القعدة من هذه السنة حسان بن غالب بن نجيح أبو القاسم الرعيني يروي عن مالك والليث وابن لهيعة وكان ثقة ‏.‏

توفي في رجب هذه السنة ‏.‏

خالد بن خداش بن عجلان أبو الهيثم المهلبي مولى آل المهلب بن أبي صفرة حدث عن مالك وحماد بن زيد وخلق كثير روى عن أحمد بن حنبل وغيره وكان ثقة صدوقًا ‏.‏

توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة وكان يخضب بالحناء عبد الله بن محمد بن حميد بن الأسود أبو بكر البصري ابن أخت عبد الرحمن بن مهدي كان ضامن همذان ويعرف بابن أبي الأسود وأبو الأسود هو حميد جده سمع مالك بن أنس وحماد بن زيد وأبا عوانة ‏.‏

روى عنه‏:‏ إبراهيم الحربي وابن أبي الدنيا وكان حافظًا متقنًا ‏.‏

توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة ‏.‏

قد ذكرنا في الحوادث أنه بويع في السر وأراد قتل المعتصم وذكرنا كيفية هلاكه ‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وعشرين ومائتين

فمن الحوادث فيها‏:‏ أن المعتصم دفع خاتم الخلافة إلى ابنه هارون وأقام مقام الخلافة عنه واستكتب له سليمان بن محمد بن عبد الملك وفيها أجرى المعتصم الخيل وكان يومًا مشهودًا ‏.‏

وفيها تزوج الحسن بن أفشين أترجة بنت أشناس ودخل بها في قصر المعتصم في جمادى الآخرة ودخل قصرها وحضر عرسها المعتصم وعامة أهل سامراء وكانوا يغلفون العامة بالغالية من تغار ‏.‏

وفي شوال‏:‏ زلزلت مدينة فرغانة فمات منها أكثر من خمسة عشر ألفًا ‏.‏

وحج بالناس في هذه السنة محمد بن داود ‏.‏

 ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

إبراهيم بن المهدي ويكنى أبا إسحاق وأمه أم ولد يقال لها‏:‏ شكلة ولد سنة ست وستين ومائة وكان أسود اللون شديد السواد عظيم الجثة ولم ير في أولاد الخلفاء أفصح منه ولا أجود شعرًا وكان كريمًا بويع له بالخلافة من أيام المأمون في سنة اثنتين ومائتين وهو يومئذ ابن تسع وثلاثين سنة وشهرين وخمسة أيام وقد ذكرنا السبب وأن المأمون بايع لعلي بن موسى الرضى بولاية العهد فغضب بنو العباس وقالوا‏:‏ لا نخرج الأمر من أيدينا فبايعوا إبراهيم فلما قدم المأمون من خراسان استتر إبراهيم فأقام في استتاره ست سنين وأربعة أشهر وعشرة أيام وكان ينتقل في المواضع حتى نزل بقرب جبلة ثم ظفر به المأمون لثلاث عشرة ليلة بقيت من ربيع الآخر سنة عشر ومائتين ‏.‏

وقد ذكرنا قصته معه وعفوه عنه في حوادث تلك السنة ولم يزل بعد أن عفا عنه إلى أن توفي‏.‏

أخبرتنا شهدة بنت أحمد الكاتبة قالت‏:‏ أخبرنا أبو محمد بن السراج أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن بندار الشيرازي أخبرنا أحمد بن علي بن لال قال‏:‏ أخبرني أحمد بن علي بن حرب عن بعض مشايخه قال‏:‏ اختفى إبراهيم بن المهدي زمن المأمون عند أخته علية وكانت تكرمه غاية الكرامة وقد وكلت به جارية قد أدبتها وأنفقت عليها الأموال وكانت حاذقة راوية للشعر وكانت قد طلبت منها مائة وخمسين ألف درهم وكانت تتولى خدمة إبراهيم وتقوم على رأسه فهويها وكره طلبها من عمته فلما اشتد وجده بها أخذ عودًا وغنى بشعر له فيها وهي واقفة على رأسه‏:‏ يا غزالًا لي إليه شافع من مقلتيه والذي أجللت خدي ه فقبلت يديه بأبي وجهك ما أك ثر حسادي عليه أنا ضيف وجزاء الضي ف إحسان إليه فسمعت الجارية الشعر وفطنت لمعناه لرقتها وظرفها وكانت مولاتها تسألها عن حالها معه وحاله كل يوم فأخبرتها في ذلك اليوم بما في قلبه منها وبما سمعت منه من الشعر والغناء فقالت لها مولاتها‏:‏ اذهبي فقد وهبتك له ‏.‏

فعادت إليه فلما رآها أعاد الصوت فأكبت عليه الجارية فقبلت رأسه فقال لها‏:‏ كفي ‏.‏

فقالت‏:‏ قد وهبتني مولاتي لك وأنا الرسول فقال‏:‏ أما الآن فنعم ‏.‏

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي قال‏:‏ أخبرنا الجوهري قال‏:‏ أخبرنا محمد بن العباس قال‏:‏ أنشدني عبيد الله بن أحمد المروروذي قال‏:‏ أنشدني إبراهيم بن المهدي‏:‏ قد شاب رأسي وراس الحرص لم يشب إن الحريص على الدنيا لفي تعب لو كان يصدقني دهري بفكرته ما اشتد غمي على الدنيا ولا نصبي أسعى وأجهد فيما لست أدركه والموت يكدح في زندي وفي عصبي بالله ربك كم بيت مررت به قد كان يغمر باللذات والطرب طارت عباب المنايا في جوانبه فصارت بعدها للويل والحرب فامسك عنانك لا تجمح به طلع فلا وعينك ما الأرزاق بالطلب قد يرزق العبد لم يتعب رواحله ويحرم الرزق من لم يوف من طلب مع أنني واجد في الناس واحدة الرزق والنول مقرونان في سبب وخطة ليس فيها من بيان غنى الرزق أروع شيء عن ذوي الأدب يا ثاقب الفهم كم أبصرت ذا حمق الزرق أعرى به من لازم الجرب توفي إبراهيم بن المهدي في رمضان هذه السنة وصلى عليه المعتصم ‏.‏

سليمان بن حرب أبو أيوب الأسدي الواشجي البصري ‏.‏

ولد سنة أربعين ومائة سمع شعبة وجرير بن حازم والحمادين وغيرهم ‏.‏

روى عنه يحيى بن قال أبو حاتم الرازي‏:‏ حضرت مجلسه ببغداد عند قصر المأمون فبني له شبه منبر فصعد وحضر حوله جماعة من القواد عليهم السواد والمأمون فوق قصره قد فتح باب القصر وقد أرسل ستر يشف وهو خلفه يكتب ما يملي وحرز من حضر أربعين ألف رجل وكان لا يسأل عن حديث إلا حدث من حفظه ولي قضاء مكة في سنة أربع عشرة ومائتين ثم عزل عنها في سنة تسع عشرة فرجع إلى البصرة فلم يزل بها حتى توفي في ربيع الآخر من هذه السنة شيبان المصاب ‏.‏

أخبرنا عمر بن ظفر أخبرنا جعفر بن أحمد السراج أخبرنا عبد العزيز بن علي الأرخي أخبرنا علي بن عبد الله بن جهضم حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى الرازي حدثنا أحمد بن سلمة قال‏:‏ حدثنا سالم قال‏:‏ بينما أنا سائر مع ذي النون في جبل لبنان إذ قال‏:‏ مكانك يا سالم حتى أعود إليك فغاب في الجبل ثلاثة أيام وأنا أتظره فإذا هاجت علي النفس أطعمتها من نبات الأرض وسقيتها من ماء الغدران فلما كان بعد الثالث رجع إلي متغير اللون ذاهب العقل فقلت له بعدما رجعت إليه نفسه‏:‏ يا أبا الفيض أسبع عارضك قال‏:‏ لا دعني من تخويف البشرية إني دخلت كهفًا من كهوف هذا الجبل فرأيت رجلًا أبيض الرأس واللحية شعثًا أغبر نحيفًا نحيلًا كأنما أخرج من قبره ذا منظر مهول وهو يصلي فسلمت عليه بعدما سلم فرد علي السلام وقال‏:‏ الصلاة فما زال راكعًا وساجدًا حتى صلى العصر واستند إلى حجر بحذاء المحراب يسبح ولا يكلمني فبدأته بالكلام وقلت له‏:‏ رحمك الله توصني بشيء ادع الله عز وجل لي بدعوة ‏.‏

فقال‏:‏ يا بني انسك الله بقربة ثم سكت فقلت‏:‏ زدني ‏.‏

قال‏:‏ يا بني من آنسه بقربه أعطاه أربع خصال‏:‏ عزًا من غير عشيرة وعلمًا من غير طلب وغنى من غير مال وأنسًا من غير جماعة ‏.‏

ثم شهق شهقة فلم يفق إلا بعد ثلاثة أيام حتى توهمت أنه ميت فلما كان بعد ثلاثة أيام قام وتوضأ من عين ماء إلى جنب الكهف وقال لي‏:‏ يا بني كم فاتني من الفرائض صلاة أو صلاتان أو ثلاث قلت‏:‏ قد فاتتك صلاة ثلاثة أيام بلياليهن فقال‏:‏ إن حب الحبيب هيج شوقي ثم حب الحبيب أذهل عقلي وقد استوحشت من ملامة المخلوقين وقد أنست بذكر رب العالمين انصرف عني بسلام فقلت له‏:‏ يرحمك الله وقفت عليك ثلاثة أيام رجاء الزيادة وبكيت ‏.‏

فقال‏:‏ أحبب مولاك ولا ترد بحبه بدلًا فالمحبون لله تعالى هم تيجان العباد وعلم الزهاد وهم أصفياء الله وأحباؤه ‏.‏

ثم صرخ صرخة عظيمة فحركته فإذا هو قد فارق الدنيا فما كان إلا هنيئة وإذا بجماعة من العباد ينحدرون من الجبال حتى واروه تحت التراب فسألت‏:‏ ما اسم هذا الشيخ قالوا‏:‏ شيبان المصاب قال سالم‏:‏ سألت أهل الشام عنه قالوا‏:‏ كان مجنونًا ‏.‏

قلت‏:‏ تعرفون من كلامه شيئًا قالوا‏:‏ نعم كلمة وجيزة كان يغني بها إذا ضجر‏:‏ إذا بك يا حبيبي لم أجن فبمن قال سالم‏:‏ فقلت‏:‏ عمي والله عليكم ‏.‏

عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج أبو معمر المقري المقعد البصري سمع عبد الوارث بن سعيد والدراوردي ‏.‏

روى عنه البخاري وأبو حاتم الرازي والدوري ‏.‏

أخبرنا أبو منصور القزاز قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر بن ثابت الخطيب قال‏:‏ أخبرنا علي بن أبي علي البصري قال‏:‏ أخبرنا محمد بن العباس الخزاز وإسماعيل بن سعيد المعدل قالا‏:‏ حدثنا ابن الأنباري قال‏:‏ حدثنا عبد الله بن بيان أخبرنا الحسن بن عبد الرحمن الربعي أخبرنا أبو محمد التوزي أخبرنا أبو معمر صاحب عبد الوارث قال‏:‏ كان شعبة يحتقرني إذا ذكرت شيئًا فحدثنا عن أبي عون عن ابن سيرين‏:‏ أن كعب بن مالك قال‏:‏ قضينا من تهامة كل ريب بخيبر ثم أحمينا السيوفا فسايلها ولو نطقت لقالت قواطعهن دوسًا أو ثقيفا وتنتزع العروش عروش وج وتصبح داركم منكم خلوفا فقلت له‏:‏ وأي عروش كانت ثم قال‏:‏ مما هي قلت‏:‏ وينتزع العروش عروش وج وذلك من قول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏خاوية على عروشها‏}‏ قال‏:‏ وكان بعد ذلك يكرمني ويرفع مجلسي كان أبو معمر ثقة ثبتًا لكنه كان يقول بالقدر ‏.‏

توفي في هذه السنة ‏.‏

عبد الرحمن بن يونس بن هاشم أبو مسلم الرومي مولى أبي جعفر المنصور ولد سنة أربع وستين ومائة وكان يستملي على سفيان بن عيينة ويزيد بن هارون روى عنه‏:‏ البخاري في صحيحه والحربي وابن أبي الدنيا وقال‏:‏ أبو حاتم الرازي‏:‏ صدوق ‏.‏

وتوفي ببغداد في رجب هذه السنة ‏.‏

علي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف أبو الحسن المدائني مولى عبد الرحمن بن سمرة القرشي وهو بصري هي مولده ونشأ بها وسكن المدائن ثم انتقل عنها إلى بغداد فسكن بها إلى أن توفي في هذه السنة وقيل في سنة خمس وعشرين وله ثلاث وتسعون سنة وكان عالمًا بأيام الناس وأخبار العرب والفتوح والمغازي وله مصنفات ‏.‏

وقد روى عنه الزبير بن بكار وغيره وكان من الثقات أهل الخير يسرد الصوم قبل موته ثلاثين سنة ‏.‏

قال أبو قلابة‏:‏ حدثت أبا عاصم النبيل بحديث فقال‏:‏ عمن هذا فقلت‏:‏ ليس له إسناد ولكن حدثنيه أبو الحسن المدائني فقال‏:‏ سبحان الله أبو الحسن إسناد ‏.‏

أخبرنا أبو منصور القزاز قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي أخبرنا الصيمري حدثنا علي بن أيوب أخبرنا محمد بن عمران المرزباني قال‏:‏ قال أبو عمر المطرز‏:‏ سمعت أحمد بن يحيى النحوي يقول‏:‏ من أراد أخبار الجاهلية فعليه بكتب أبي عبيدة ومن أراد أخبار الإسلام فعليه بكتب المدائني ‏.‏

القاسم بن سلام أبو عبيد كان أبوه روميًا لرجل من أهل هراة وبها ولد أبو عبيد ويحكى أن سلامًا خرج يومًا وأبو عبيد مع ابن مولاه في الكتاب فقال للمعلم‏:‏ علمني القاسم فإنها كسبه ‏.‏

طلب أبو عبيد العلم وسمع الحديث من إسماعيل بن جعفر وشريك وهشيم وابن عيينة ويزيد بن هارون وخلق كثير وروى اللغة عن البصريين والكوفيين عن أبي زيد وأبي عبيدة والأصمعي واليزيدي وعن أبي عثمان وأبي عمرو الشيباني والكسائي والأحوص والأحمر والفراء ‏.‏

وصنف الكتاب في فنون الفقه والقراءات والغريب وغير ذلك ‏.‏

وكان مؤدبًا لآل هرثمة وصار في ناحية عبد الله بن طاهر وكان ذا فضل ودين وجود ومذهب حسن ‏.‏

أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد أخبرنا أبو بكر بن علي بن ثابت أخبرنا القاضي أبو العلاء قال‏:‏ قال أبو الحسن محمد بن جعفر التميمي‏:‏ كان طاهر بن الحسين حين مضى إلى خراسان نزل بمرو فطلب رجلًا يحدثه ليله فقيل‏:‏ ما ههنا إلا رجل مؤدب فأدخل عليه أبو عبيد فوجده أعلم الناس بأيام الناس والنحو واللغة والفقه فقال له‏:‏ من المظالم تركك أنت بهذا البلد فدفع إليه ألف دينار وقال له‏:‏ أنا متوجه إلى خراسان إلى حرب وليس أحب استصحابك شفقة عليك فأنفق هذه إلى أن أعود إليك قال أبو عبيد‏:‏ صنفت غريب المصنف إلى أن عاد طاهر بن الحسين من خراسان فحمله معه إلى سامراء ‏.‏

قال التميمي‏:‏ وحدثنا أبو علي النحوي حدثنا الفسطاطي قال‏:‏ كان أبو عبيد مع ابن طاهر فوجه إليه أبو دلف يستهديه أبا عبيدة مدة شهرين فأنفذ أبا عبيد إليه فأقام شهرين فلما أراد الانصراف وصله أبو دلف بثلاثين ألف درهم فلم يقبلها وقال‏:‏ أنا في جنبة رجل ما يحوجني إلى صلة أحد ولا آخذ ما فيه علي نقص فلما عاد إلى طاهر وصله بثلاثين ألف دينار بدل ما وصله أبو دلف فقال له‏:‏ أيها الأمير قد قبلتها ولكن أنت قد أغنيتني بمعروفك وبرك وكفايتك عنها وقد رأيت أن أشتري بها سلاحًا وخيلًا وأوجه بها إلى الثغور ليكون الثواب متوفرًا على الأمير ففعل‏.‏

أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت حدثنا أبو القاسم الأزهري حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا عبيد الله بن عبد الرحمن السكري قال‏:‏ قال أحمد بن يوسف - إما سمعته منه أو حدثت به عنه - قال‏:‏ لما عمل أبو عبيد كتاب غريب الحديث عرضه على عبد الله بن طاهر فاستحسنه وقال‏:‏ إن عقلًا بعث صاحبه على عمل مثل هذا الكتاب لحقيق أن لا يحوج إلى طلب المعاش فأجرى له عشرة آلاف درهم في كل شهر ‏.‏

وأول من سمع هذا الكتاب من أبي عبيد‏:‏ يحيى بن معين وابن المديني ‏.‏

وكان الأصمعي يقول‏:‏ لن يضيع الناس ما حيي أبو عبيد ‏.‏

وقال إبراهيم الحربي‏:‏ ما شبهت أبا عبيد إلا بجبل نفخ فيه روح ‏.‏

وكان أبو عبيد يقسم الليل أثلاثًا فينام ثلثه ويصلي ثلثه ويضع الكتب ثلثه ‏.‏

وتولى قضاء طرسوس ثم حج سنة تسع عشرة ومات بمكة سنة أربع وعشرين وقيل في التي قبلها وقد بلغ سبعًا وستين سنة ‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومائتين

فمن الحوادث فيها‏:‏ أن المعتصم أجلس أشناس على كرسي وخلع عليه وتوجه ووشحه في شهر ربيع الأول ‏.‏

وفيها‏:‏ خلع المعتصم على محمد بن عبد الملك الزيات ووسمه بالوزارة ورفع من قدره ‏.‏

وفيها‏:‏ غضب المعتصم على جعفر بن دينار من أجل وثوبه على من كان معه من الشاكرية وحبسه عند أشناس خمسين يومًا وعزله عن اليمن وولاها إيتاخ ثم رضي عن جعفر ثم عزل الأفشين عن الحرس ووليه إسحاق بن يحيى ‏.‏

وفيها‏:‏ غضب المعتصم على الأفشين فحبسه لأنه رفع عنه أنه يريد قتل المعتصم ‏.‏

وذكر الصولي أن أحمد بن أبي دؤاد قال للمعتصم‏:‏ إن الأفشين قد كاتب المازيار وكان خارجيًا فقال المعتصم‏:‏ فكيف أعلم حقيقة ذلك قال‏:‏ تبعث إلى كاتبه في الليل فتهدده فإنه ضعيف القلب وسيقر لك ففعل وأعطاه أمانًا فأقر له ‏.‏

قال له‏:‏ فمن كتب الكتاب قال‏:‏ أنا ‏.‏

قال‏:‏ فما فيه قال‏:‏ كتب إليه‏:‏ لم يكن في العصر فير بابك وغيرك وغيري فمشى بابك وقد جاءك جيش فإن هزمته كفيتك أنا الحضرة وخلص لنا الدين الأبيض قال‏:‏ فانصرف ولا تعلم قال أحمد بن أبي دؤاد‏:‏ فدخلت على المعتصم وهو يبكي فأنكرت ذلك فقال‏:‏ يا أبا عبد الله رجل أنفقت عليه ألف ألف دينار ووهبت له مثلها يريد قتلي وقد تصدقت بعشرة آلاف ألف درهم فخذها فأنفذها وكان الكرخ قد احترقت حتى كان الرجل إذا قام من ضيعة الكرخ رأى أرقال السفن ‏.‏

فقال أحمد بن أبي دؤاد‏:‏ إن رأى أمير المؤمنين أن يجعل النصف من هذا المال لأهل الحرمين والنصف الآخر لأهل الكرخ ‏.‏

قال‏:‏ أفعل ‏.‏

وكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر أن يقبض على الحسن بن الأفشين وامرأته أترجة بنت أشناس في يوم حده له وقبض هو على الأفشين فيه وحبسه ‏.‏

وفي مستهل جمادى الأولى‏:‏ كانت رجفة بالأهواز عظيمة تصدعت منها الجبال وخصوصًا الجبل المطل على الأهواز ودامت أربعة أيام بلياليها وهرب أهل البلدة إلى البر وإلى السفن وسقطت فيها دور كثيرة وسقط نصف الجامع ومكثت ستة عشر يومًا ‏.‏

وفيها‏:‏ أحرقت الكرخ فأسرعت النار في الأسواق فوهب المعتصم للتجار وأصحاب العقار خمسة آلاف ألف درهم جرت على يد ابن أبي دؤاد وقدم بها إلى بغداد ففرقها ‏.‏

وفيها‏:‏ أحرق المعتصم غنامًا المرتد ‏.‏

وفيها‏:‏ أسر مازيار فضرب خمسمائة سوط فمات من يومه وكان خلع بطبرستان وصلب إلى جانب بابك بسامراء ‏.‏

وحج بالناس في هذه السنة محمد بن داود ‏.‏

 ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

إبراهيم بن مهدي بغدادي نزل المصيصة فقيل له‏:‏ المصيصي حدث عن إبراهيم بن سعد وحماد بن زيد وغيرهما ‏.‏

روى عنه‏:‏ أحمد بن حنبل وأبو داود وعباس الدوري وكان ثقة وتوفي في هذه السنة ‏.‏

إبراهيم بن أبي محمد يحيى بن المبارك بن المغيرة أبو إسحاق العدوي المعروف بابن اليزيدي البصري سكن بغداد وله فضل وافر وحظ من الأدب الزائد سمع من أبي زيد والأصمعي وجالس المأمون وكان شاعرًا مجيدًا وله كتاب مصنف يفتخر به اليزيديون وهو ما اتفق لفظه واختلف معناه نحو من سبعمائة ورقة وذكر أنه بدأ بتصنيفه وهو ابن سبع عشرة سنة ولم يزل يعمله إلى سعيد بن سليمان أبو عثمان الواسطي المعروف بسعدويه البزار سكن بغداد وحدث بها عن الليث بن سعد وزهير بن معاوية وحماد بن سلمة وغيرهم ‏.‏

روى عنه‏:‏ يحيى بن معين وأبو زرعة وأبو حاتم وغيرهم وكان ثقة مأمونًا حج ستين حجة إلا أنه كان يصحف وامتحن فأجاب ‏.‏

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد أخبرنا أحمد بن علي أخبرنا محمد بن عبد الواحد أخبرنا الوليد بن بكر حدثنا علي بن أحمد بن زكريا الهاشمي حدثنا أبو مسلم صالح بن أحمد العجلي قال‏:‏ حدثني أبي قال‏:‏ سعيد بن سليمان ويعرف بسعدويه ثقة قيل له بعدما انصرف من المحنة ما فعلتم قال‏:‏ كفرنا ورجعنا ‏.‏

توفي سعدويه ببغداد في هذه السنة في ذي الحجة وله مائة سنة ‏.‏

صالح بن إسحاق بن عمرو الجرمي النحوي ‏.‏

صاحب الكتاب المختصر في النحو وإنما قيل له الجرمي لأنه كان ينزل في جرم وقيل‏:‏ بل كان مولى لجرم وجرم من قبائل اليمن وأخذ النحو عن الأخفش وغيره ولقي يونس بن حبيب ولم يلق سيبويه وأخذ اللغة عن أبي عبيدة وأبي زيد والأصمعي وطبقتهم وأسند الحديث عن توفي في هذه السنة ‏.‏

عبيد بن غاضرة بن فرقد أبو عثمان العبدي ‏.‏

قدم مصر وحدث بها وتوفي في شوال هذه السنة ‏.‏

علي بن رزين أبو الحسن الخراساني ‏.‏

كان أستاذ أبي عبد الله المغربي ‏.‏

أخبرنا عمر بن ظفر قال‏:‏ أخبرنا أبو جعفر بن أحمد بن عبد الواحد أخبرنا عبد العزيز بن علي أخبرنا ابن جهضم حدثنا أحمد بن محمد بن علي بن هارون قال‏:‏ سمعت إبراهيم بن شيبان قال‏:‏ كان علي بن رزين قد شاع عنه في الناس أنه يشرب في كل أربعة أشهر شربة ماء فسأله رجل من أهل قرميسين عن هذا فقال‏:‏ نعم وأي شيء في هذا‏!‏ سألت الله عز وجل أن يكفيني مؤونة بطني فكفاني ‏.‏

عاش علي بن رزين مائة وعشرين سنة ‏.‏

وتوفي في هذه السنة ودفن على جبل الطور ‏.‏

القاسم بن عيسى بن إدريس بن معقل أبو دلف العجلي أمير الكرخ كان سمحًا جوادًا وبطلًا شجاعًا وأديبًا شاعرًا ‏.‏

أخبرنا أبو منصور بن عبد الرحمن القزاز أخبرنا أبو بكر الخطيب أخبرنا الأزهري أخبرنا أحمد بن إبراهيم بن الحسن حدثنا أحمد بن مران المكي حدثنا المبرد حدثنا أبو عبد الرحمن الثوري قال‏:‏ استهدى المعتصم من أبي دلف كلبًا أبيض كان عنده فجعل في عنقه قلادة كيمخت أقصر وكتب عليها‏:‏ أوصيك خيرًا به فإن له خلائقًا لا أزال أحمدها يدل ضيفي علي في ظلم الل يل إذا النار نام موقدها قال الأزهري‏:‏ وفي كتابي عن سهل الديباجي حدثنا أحمد بن محمد بن الفضل الأهوازي قال‏:‏ أنشد بكر بن النطاح أبا دلف‏:‏ مثال أبي دلف أمة وخلق أبي دلف عسكر وإن المنايا إلى الدارعين بعيني أبي دلف تنظر قال‏:‏ فأمر له بعشرة آلاف درهم فمضى فاشترى بها بستانًا بنهر الأبلة ثم عاد من قابل فأنشده‏:‏ بك ابتعت في نهر الأبلة جنة عليها قصير بالرخام مشيد إلى لزقها أخت لها يعرضونها وعندك مال للهبات عتيد فقال أبو دلف‏:‏ بكم الأخرى قال‏:‏ بعشرة آلاف فقال‏:‏ ادفعوها إليه ثم قال له‏:‏ لا تجيني قابل فتقول بلزقها أخرى فإنك تعلم أن لزق أخرى إلى أخرى اتصل إلى ما لا نهاية له ‏.‏

أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر بن ثابت أخبرنا الحسن بن محمد الخليل حدثنا أحمد بن إبراهيم البزار أخبرنا أحمد بن مران المالكي حدثنا الحسن بن علي الربعي حدثنا أبي قال‏:‏ سمعت العتابي يقول‏:‏ اجتمعنا على باب أبي دلف جماعة فكان يعدنا بأمواله من الكرج وغيرها فأتته الأموال فبسطها على الأنطاع وجلسنا حوله ثم اتكأ على قائم سيفه وأنشأ يقول‏:‏ ألا أيها الزوار لا يد عندكم أياديكم عندي أجل وأكبر فإن كنتم أفردتموني بالرجاء فشكري لكم من شكركم لي أكثر كفاني من مالي دلاص وسابح وأبيض من صافي الحديد مغفر ثم أمر بنهب تلك الأموال فأخذ كل واحد منا على قدر قوته ‏.‏

أخبرنا أبو منصور القزاز قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت أخبرنا أحمد بن عمر بن روح أخبرنا المعافى بن زكريا حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي حدثنا أبو الفضل الربعي عن أبيه قال‏:‏ قال المأمون يومًا - وهو مقطب - لأبي دلف‏:‏ أنت الذي يقول فيك الشاعر‏:‏ فإذا ولى أبو دلف ولت الدنيا على أثره فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين شهادة زور وقول غرور وملق معتف وطالب عرف وأصدق منه قول ابن أخت لي حيث يقول‏:‏ دعيني أجوب الأرض ألتمس الغنى فلا الكرج الدنيا ولا الناس قاسم إذا كانت الأرزاق في كف قاسم فلا كانت الدنيا ولا كان قاسم فضحك المأمون وسكن غضبه ‏.‏

توفي أبو دلف ببغداد في هذه السنة ‏.‏

أخبرنا أبو منصور القزاز قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي أخبرنا الحسن بن أبي طالب حدثنا يوسف بن عمر القواس حدثنا الحسين بن إسماعيل حدثنا عبد الله بن أبي سعد حدثنا محمد بن سلمة البلخي حدثنا محمد بن علي القوهستاني حدثنا دلف بن أبي دلف قال‏:‏ رأيت كأن آتيًا أتاني بعد موت أبي دلف فقال‏:‏ أجب الأمير فقمت معه فأدخلني دارًا وحشة وعرة سود الحيطان مقلعة السقوف والأبواب ثم أصعدني درجًا فيها ثم أدخلني غرفة فإذا في حيطانها أثر النيران وإذا في أرضها أثر الرماد وإذا أبي عريان واضع رأسه بين ركبتيه فقال لي كالمستفهم‏:‏ دلف قلت‏:‏ نعم أصلح الله الأمير ‏.‏

فأنشأ يقول‏:‏ قد سئلنا عن كل ما قد فعلنا فارحموا وحشتي وما قد ألاقي أفهمت قلت‏:‏ نعم فأنشأ يقول‏:‏ فلو كنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حي ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعد ذا عن كل شيء انصرف قال‏:‏ فانتبهت ‏.‏

أخبرنا أبو منصور القزاز قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر الخطيب أخبرنا أبو يعلى أحمد بن عبد الواحد الوكيل أخبرنا محمد بن جعفر التميمي أخبرنا الصولي قال‏:‏ تذاكرنا يومًا عند المبرد الحظوظ وأرزاق الناس من حيث لا يحتسبون فقال‏:‏ هذا يقع كثيرًا فمنه قول ابن أبي فنن في أبيات عملها لمعنى أراده‏:‏ ما لي وما لك قد كلفتني شططًا حمل السلاح وقول الدارعين قف أمن رجال المنايا خلتني رجلًا أمسى وأصبح مشتاقًا إلى التلف تمشي المنون إلى غيري فأكرهها فكيف أمشي إليها بارز الكتف أم هل حسبت سواد الليل شجعني أو أن قلبي في جنبي أبي دلف فبلغ هذا الشعر أبا دلف فوجه إليه أربعة آلاف درهم جاءته على غفلة ‏.‏

بلغني عن الفضل بن محمد بن أبي محمد اليزيدي وكان من العلماء الأدباء الفضلاء قال‏:‏ كان لرجل حجازي جارية مغنية شاعرة وكان مشغوفًا بها فأملق في بلده فسافر بها طلبًا للرزق فقصد بغداد فسمع به جماعة من أهلها فقصدوه للمعاشرة فلم يحظ منهم بطائل ورآهم يلاحظون الجارية ويولعون بها فقطعهم عنه فاشتدت فاقته فقصد أبا دلف العجلي بالكرج فمدحه ولم يكو شعره بالطائل بحيث يقتضي كثرة الجائزة فاضطر إلى بيع الجارية فابتاعها منه أبو دلف بثلاثة آلاف دينار وكساه ووصله وحمله فانصرف وهو باك حزين فوصل إلى بغداد وكان يحضر عندي دائمًا ويشكو شوقه إلى الجارية شكوى تؤلمني فانصرف من عندي يومًا ثم بعث إلي برقعة يقول فيها‏:‏ إنه وصل إلى منزله فوجد الجارية وقد أهداها له أبو دلف فتطلعت نفسي إلى معرفة الحال فمضيت إليه فوجدت الجارية جالسة وامرأة كهلة وخادمًا فسألتها عن أمرها فقالت‏:‏ إني لما فارقت مولاي عظم استيحاشي وحزني حتى امتنعت من الطعام والنوم فاستدعاني أبو دلف وطيب نفسي بكل وعد جميل وسامني الغنى فكنت إذا هممت بإجابته خنقتني العبرة فلم أستطع الكلام وفعل ذلك دفعات وأنا على حالي فجفاني وبقيت في حجرة أفردت لي لا أرى إلا خادمًا ربما كان برسم حفظي وجارية وكلت بخدمتي وكنت قلت أبياتًا وعلقتها في رقعة أنظر فيها وقت خلوتي وهي‏:‏ ماذا دعاه إلى هجر المروة في تفريق إلفين كانا في الهوى مثلا فإن مولاي أصمته الخطوب بما لو مر بالطفل عاد الطفل مكتهلا فباعني بيع مضطر وصيره فرط الندامة بعد البين مختبلا وبت عادمة للصبر باكية كأنني مدنف قد شارف الأجلا بين الضرائر أدعى بالغريبة إن هفوت لم ألق لي في الناس محتملا فما تبدلت إلفًا بعد فرقته ولا تعوض مني غادر بدلا فاتفق أنه اجتاز بباب الحجرة فدخل لينظر هل خف ما أجده فجلس يعاتبني ويرفق بي ويومئ في كلامه إلى تهديدي فوجدني على حالتي الأولى ولاحظ الرقعة فأخذها فتأملها وقال‏:‏ الآن يئست منك وإن رددتك على مولاك فمن يرد المال علي قلت‏:‏ قانصه يرده عليك أو ما بقي منه وهو الأكثر بلا شك والله عز وجل يخلف عليك باقيه ‏.‏

فأطرق ساعة ثم قال‏:‏ بل الله عز وجل يخلف علي الأصل وقد رددتك على مولاك ووهبت لك ما بقي عنده من ثمنك لحسن عهدك ورعايتك حق الصحبة وما أفارق موضعي إلا وأنت على الطريق فاستتري مني فلست الآن في ملكي ‏.‏

فدخلت بيتًا في الحجرة فاستدعى كرسيًا فجلس عليه وأحضر هذه العجوز وهي قهرمانة داره وهذا الخادم وأوصاهما بحفظي حتى يسلماني إلى صاحبي وأزاح العلة في جميع ما احتجت إليه من النفقة والكسوة والكراع وحمل معي جميع ما كان جعله في داره من الأثاث والفرش وما فارق الكرسي إلا وقد خرجنا من بين يديه ‏.‏

فقلت‏:‏ يا مولاي قد حضرني بيتان أسألك أن تأذن لي في إنشادهما ‏.‏

فأذن لي فقلت‏:‏ لم يخلق الله خلقًا صيغ من كرم إلا أمير الندى المكنى أبا دلف رثى لمحزونة بالبين مدنفة فردها طالبًا أجرًا على دنف فدمعت عيناه وقال‏:‏ أحسنت وأمر لي بخلعة ومائة دينار فحمل ذلك إلي وسرت ‏.‏

قال اليزيدي‏:‏ فعجبت من ذلك وكانت ليلة نوبتي في السمر عند المأمون فقلت له‏:‏ يا أمير المؤمنين عندي حديث مستطرف نادر فقال‏:‏ هات يا فضل ‏.‏

فأعدت عليه الحديث عن آخره فاستحسنه وعجب منه وقال‏:‏ ما قصرت الجارية في حفظ عهد من رباها وما قصر القاسم في فعله ونحتاج أن نقوي عزمه في مثل هذا الفعل الجميل الذي هو معدود في مفاخر أيامنا فإذا أصبحت فاغد إلى أحمد بن أبي طاهر وقل له‏:‏ احتسب للقاسم العجلي بثلاثة آلاف دينار من معاملاته وأنفذ له درزًا يقبض المال لذلك واكتب أنت إليه وعرفه انتهاء الحال إلينا وإحمادنا لما اعتمد ليزداد حرصًا على انتهاز الفرص في مثل هذه المكرمة فبادرت لما أمر به وتنجزت الدرز بالمال وجعلته درج كتابي وسلمته إلى صاحب الحرس لينفده على البريد فلم تمض إلا أيام حتى عاد جوابه يشكرني ويقول‏:‏ أما ثمن الجارية فوصل واغتبطت بنعمة أمير المؤمنين في تعويضي إلا أنه مال أخرجته من فضل إحسانه وما أحب ارتجاعه لكني قبلته طاعة وحملت إليك منه ألفًا لقضاء حقك وتقدمت بتفريق الباقي منه على من بهذه الديار من بني هاشم وأعلمتهم أن كتاب أمير المؤمنين ورد بأنه انتهى إليه اختلال أحوالهم فأمر بتعهدهم بذلك فأكثروا الشكر والدعاء ‏.‏

قال اليزيدي‏:‏ فأنهيت ذلك إلى أمير المؤمنين فتهلل وجهه وقال‏:‏ إنه ليسرني أن يكون ممن اتسع حظه من خير أيامي جماعة منهم القاسم بن عيسى ‏.‏

منصور بن عمار بن كثير أبو السري الواعظ من أهل خراسان ‏.‏

وقيل‏:‏ من أهل البصرة سكن بغداد وحدث بها عن ليث بن سعد وابن لهيعة وغيرهما روى عنه‏:‏ أبو بكر بن علي بن حزم ‏.‏

أخبرنا أبو منصور القزاز أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي أخبرنا محمد بن علي الصولي أخبرنا محمد بن عبد الرحمن الأزدي حدثنا عبد الواحد بن محمد بن مسرور حدثنا أبو سعيد بن يونس قال‏:‏ منصور بن عمار يكنى أبا السري قدم مصر وجلس يقص على الناس فسمع كلامه الليث بن سعد فاستحسن قصصه وفصاحته فذكر أن الليث قال له‏:‏ ما الذي أقدمك إلى بلدنا قال‏:‏ طلبت أن أكسب بها ألف دينار فقال له الليث‏:‏ فهي لك علي وصن كلامك هذا الحسن ولا تتبذل‏.‏

فأقام بمصر في جملة الليث بن سعد في جرايته إلى أن خرج عن مصر فدفع إليه الليث بن سعد ألف دينار ودفع إليه بنو الليث أيضًا ألف دينار فخرج وسكن بغداد وتوفي بها ‏.‏

وكان في قصصه وكلامه شيئًا عجبًا لم يقص على الناس مثله ‏.‏

أخبرنا أبو منصور أخبرنا أبو بكر أخبرنا الأزهري أنبأنا ابن بطة أخبرنا إبراهيم بن جعفر التستري قال‏:‏ سمعت أبا الحسن علي بن الحسن الواعظ يقول‏:‏ سمعت أبا بكر الصيدلاني يقول‏:‏ سمعت سليم بن منصور بن عمار يقول‏:‏ رأيت أبي منصورًا في المنام فقلت‏:‏ ما فعل بك ربك فقال‏:‏ إن الرب قربني وأدناني وقال لي‏:‏ يا شيخ السوء تدري لم غفرت لك قال‏:‏ فقلت‏:‏ لا يا إلهي قال‏:‏ إنك جلست للناس مجلسًا فبكيتهم فبكى فيهم عبد من عبادي لم يبك من خشيتي قط ‏.‏

فغفرت له ووهبت أهل المجلس كلهم له ووهبتك فيمن وهبت له ‏.‏

أخبرنا محمد بن أبي القاسم أنبأنا رزق الله بن عبد الوهاب عن أبي عبد الرحمن السلمي قال‏:‏ سمعت أبا بكر الرازي يقول‏:‏ سمعت أبا العباس القاضي يقول‏:‏ سمعت أبا الحسين يقول‏:‏ رأيت منصور بن عمار في المنام فقلت له ما فعل الله بك قال‏:‏ وقفت بين يديه فقال لي‏:‏ أنت الذي كنت تزهد الناس في الدنيا وترغب عنها قلت‏:‏ قد كان ذلك ولكن ما اتخذت مجلسًا إلا وبدأت بالثناء عليك وثنيت بالصلاة على نبيك وثلثت بالنصيحة لعبادك ‏.‏

فقال‏:‏ صدق ضعوا له كرسيًا في سمائي فمجدني في سمائي بين ملائكتي كما مجدتني في أرضي بين عبادي ‏.‏

توفي منصور في هذه السنة ببغداد وقبره ظاهر بمقبرة باب حرب قريبًا من بشر الحافي ‏.‏

مخة أخت بشر الحافي ‏.‏

وكان لبشر ثلاث أخوات مخة ومضغة وزبدة والمشهور بذكر الورع مخة ‏.‏

أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال‏:‏ حدثني عبد العزيز بن أحمد الكتاني حدثنا عبد الوهاب بن عبد الله المزني قال‏:‏ سمعت أبا بكر الأحنف يقول‏:‏ سمعت عبد الله بن أحمد يقول‏:‏ جاءت مخة أخت بشر الحافي إلى أبي فقالت له‏:‏ إني امرأة رأس مالي دانقين أشتري القطن فأغزله وأبيعه بنصف درهم وأتقوت بدانق من الجمعة إلى الجمعة فمر ابن طاهر الطائف ومعه مشعل فوقف يكلم أصحاب المسالح فاستغنمت ضوء المشعل فغزلت طاقات ثم غاب عني المشعل فعلمت أن لله في مطالبة فخلصني خلصك الله فقال لها‏:‏ تخرجين الدانقين ثم تبقين بلا رأس مال حتى يعوضك الله خيرًا منه ‏.‏

قال عبد الله‏:‏ فقلت لأبي يا أبه لو قلت لها‏:‏ لو أخرجت الغزل الذي فيه الطاقات فقال‏:‏ يا بني سؤالها لا يحتمل التأويل ‏.‏

ثم قال‏:‏ من هذه قلت‏:‏ مخة أخت بشر الحافي فقال‏:‏ من ها هنا أتيت ‏.‏